الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
سبق أن تحدثنا عن العبودية، فإنْ كانت لله تعالى فهي العزّ والشرف، وإنْ كانت لغير الله فهي الذلُّ والهوان، وقلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ حَظْوة الإسراء والمعراج إلا لأنه عبد لله، كما قال سبحانه: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1].كما أن العبودية لله يأخذ فيه العبد خَيْر سيده، أما العبودية للبشر فيأخذ السيد خَيْر عبده.ثم وصف الحق سبحانه هذا العبد الصالح، فقال: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا} [الكهف: 65] وقد تكلم العلماء في معنى الرحمة هنا، فقالوا: الرحمة وردتْ في القرآن بمعنى النبوة، كما في قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] فكان رَدُّ الله عليهم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32].أي: النبوة، ومطلق الرحمة تأتي على يد جبريل عليه السلام وعلى يد الرسل، أما هذه الرحمة، فمن عندنا مباشرة دون واسطة الملَك؛ لذلك قال تعالى: {آتَيْنَاهُ} [الكهف: 65] نحن، وقال: {مِّنْ عِندِنَا} [الكهف: 65] فالإتيان والعندية من الله مباشرة.ثم يقول بعدها: {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65] أي: من عندما لا بواسطة الرسل: لذلك يسمونه العلم اللدني، كأنه لا حرجَ على الله تعالى أن يختار عبدًا من عباده، ويُنعِم عليه بعلم خاص من وراء النبوة.إذن: علينا أنْ نُفرِّق بين علم وفيوضات تأتي عن طريق الرسول وتوجيهاته، وعلم وفيوضات تأتي من الله تعالى مباشرة لمن اختاره من عباده؛ لأن الرسول يأتي بأحكام ظاهرية تتعلق بالتكاليف: افعل كذا ولا تفعل كذا، لكن هناك أحكام أخرى غير ظاهرية لها عِلَل باطنة فوق العِلل الظاهرية، وهذه هي التي اختصَّ الله بها هذا العبد الصالح الخضر كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم.والدليل على ذلك أن النبي يأتي بأحكام تُحرّم القتل وتحرم إتلاف مال الغير، فأتى الخضر وأتلف السفينة وقتل الغلام، وقد اعترض موسى عليه السلام على هذه الأعمال؛ لأنه لا عِلْم َله بعلتها، ولو أن موسى عليه السلام علم العلّة في خَرْق السفينة لبادر هو إلى خرقها.إذن: فعلم موسى غير علم الخضر؛ لذلك قال له: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف: 67-68].فهذا عِلْم ليس عندك، فعِلْمي من كيس الولاية، وعلمك من كيس الرسل، وهما في الحقيقة لا يتعارضان، وإنْ كان لعلم الولاية عِلَل باطنة، ولعلم الرسالة عِلَل ظاهرة.ثم يقول تعالى: {قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ}. كأن موسى عليه السلام يُعلِّمنا أدب تلقّي العلم وأدب التلميذ مع معلمه، فمع أن الله تعالى أمره أن يتبع الخضر، فلم يقُل له مثلًا: إن الله أمرني أن أتبعك، بل تلطّف معه واستسمحه بهذا الأسلوب: {هَلْ أَتَّبِعُكَ} [الكهف: 66].والرشد: هو حُسْن التصرّف في الأشياء، وسداد المسلك في علة ما أنت بصدده، وسبق أن قلنا: إن الرُّشْد يكون في سنِّ البلوغ، لكن لا يعني هذا أن كل مَنْ بلغ يكون راشدًا، فقد يكون الإنسان بالغًا وغير راشد، فقد يكون سفيهًا.لذلك لما تكلم الحق سبحانه عن اليتامى قال: {وابتلوا اليتامى} [النساء: 6] أي: اختبروهم، واختبار اليتيم يكون حال يُتْمه وهو ما يزال في كفالتك، فعليك أنْ تكلّفه بعمل لإصلاح حاله، وتعطيه جزءًا من ماله يتصرَّف فيه تحت عينك وفي رعايتك، لترى كيف سيكون تصرفه.عليك أنْ تحرص على تدريبه لمواجهة الحياة، لا أن تجعله في مَعْزل عنها إلى أنْ يبلغَ الرشْد، ثم تدفع إليه بماله فلا يستطيع التصرف فيه لعدم خبرته، وإنْ فشل كانت التجربة في ماله والخسارة عليه.إذن: فاختبار اليتيم يتمُّ وهو ما يزال في ولايتك، وتحت سمعك وبصرك رعاية لحقه. {حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ} [النساء: 6] وهو سن البلوغ، ولم يقُلْ بعدها: فادفعوا إليهم أموالهم؛ لأن بعد البلوغ شرطًا آخر {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] فعلى الوصيّ أنْ يُراعِيَ هذا الترتيب: أنْ تُراعي اليتيم وهو تحت ولايتك، وتدفع به في مُعْتَرك الحياة وتجاربها حتى يتمكن من مواجهة الحياة ولا يتخبط في ماله لعدم تجربته وخبرته، فإن علمت رشده بعد البلوغ فادفع إليه بماله ليتصرف فيه، فإن لم تأنس منه الرشد وحسن التصرف فلا تترك له المال يبدده بسوء تصرفه. لذلك يقول تعالى في هذا المعنى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] ولم يقُلْ: أموالهم؛ لأن السفيه لا مالَ له حال سَفَهه، بل هو مالكم لِتُحسِنوا التصرف فيه وتحفظوه لصاحبه لحين تتأكد من رُشْده.إذن: فالرشد الذي طلبه موسى من العبد الصالح هو سداد التصرف والحكمة في تناول الأشياء، لكن هل يعني ذلك أن موسى عليه السلام لم يكن راشدًا؟ لا، بل كان راشدًا في مذهبه هو كرسول، راشدًا في تبليغ الأحكام الظاهرية.أما الرشد الذي طلبه فهو الرشد في مذهب العبد الصالح، وقد دلّ هذا على أنه طلب شيئًا لم يكن معلومًا له، وهذا لا يقدح في مكانة النبوة؛ لأن الحق سبحانه وتعالى قال: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلًا} [الإسراء: 85] وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].لذلك يقول الشاعر:
لأن معنى أنه ازداد عِلْمًا اليوم أنه كان ناقصًا بالأمس، وكذلك هو ناقص اليوم ليعلمَ غدًا.والإنسان حينما يكون واسعَ الأفق محبًا للعلم، تراه كلما عَلِم قضية اشتاق لغيرها، فهو في نَهمٍ دائم للعلم لا يشبع منه، كما قال صلى الله عليه وسلم: «منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب مال».والشاعر الذي تنَّبه لنفسه حينما دَعَتْه إلى الغرور والكبرياء والزَّهْو بما لديه من علم قليل، إلا أنه كان متيقظًا لخداعها، فقال: ثم جاء بمثل توضيحي: ثم يقول الحق سبحانه: {قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}.هنا يبدأ العبد الصالح يُملي شروط هذه الصُّحْبة ويُوضّح لموسى عليه السلام طبيعة عِلْمه ومذهبه، فمذهبُك غير مذْهبي، وعلمي من كيس غير كيسك، وسوف ترى مني تصرفات لن تصبر عليها؛ لأنه لا عِلْم لك ببواطنها، وكأنه يلتمس له عُذْرًا على عدم صَبْره معه؛ لذلك يقول: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}.فلا تحزن لأني قُلت: لن تستطيع معي صبرًا؛ لأن التصرفات التي ستعترض عليها ليس لك خُبر بها، وكيف تصبر على شيء لا عِلْمَ لك به؟ونلحظ في هذا الحوار بين موسى والخضر عليهما السلام أدبَ الحوار واختلافَ الرأي بين طريقتين: طريقة الأحكام الظاهرية، وطريقة ما خلف الأحكام الظاهرية، وأن كلًا منهما يقبَل رأْيَ الآخر ويحترمه ولا يعترض عليه أو يُنكره، كما نرى أصحاب المذاهب المختلفة ينكر بعضهم على بعض، بل ويُكفِّر بعضهم بعضًا، فإذا رأَوْا مثلًا عبدًا مَنْ عباد الله اختاره الله بشيء من الفيوضات، فكانت له طريقة وأتباع نرى من ينكر عليه، وربما وصل الأمر إلى الشتائم والتجريح، بل والتكفير.لقد تجلى في قول الخضر: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} [الكهف: 68] مظهر من مظاهر أدب المعلّم مع المتعلِّم، حيث احترم رأيه، والتمس له العُذْر إن اعترض عليه، فلكُلٍّ منهما مذهبه الخاص، ولا يحتج بمذهب على مذهب آخَر.فماذا قال المتعلم بعد أن استمع إلى هذه الشروط؟ {قَالَ ستجدني إِن شَاءَ الله}.أي: أنا قابل لشروطك أيُّها المعلم فاطمئن، فلن أجادلك ولن أعارضك في شيء. وقدّم المشيئة فقال: {إِن شَاءَ الله} [الكهف: 69] ليستميله إليه ويُحنَّن قلبه عليه {صَابِرًا} [الكهف: 69] على ما تفعل مهما كان {وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْرًا} [الكهف: 69] وهكذا جعل نفسه مأمورًا، فالمعلم آمرًا، والمتعلّم مأمور.{قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)}.وهذا تأكيد من الخضر لموسى، وبيان للطريقة التي يجب اتباعها في مصاحبته: إنْ تبعتني فلا تسألْني حتى أخبرك، وكأنه يُعلِّمه أدب تناول العلم والصبر عليه، وعدم العجلة لمعرفة كل أمر من الأمور على حِدة. اهـ. .قال أبو حيان في الآيات السابقة: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)}.برح: زال مضارع يزول، ومضارع يزال فتكون من أخوات كان الناقصة.الحِقب: السنون واحدها حقبة.قال الشاعر:وقال الفراء: الحقب سنة، ويأتي قول أهل التفسير فيه.السرب: المسلك في جوف الأرض.النصب: التعب والمشقة.الصخرة معروفة وهي حجر كبير.{وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبًا فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربًا فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبًا قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبًا قال ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصًا فوجدا عبدًا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علمًا قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدًا قال إنك لن تستطيع معي صبرًا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرًا قال ستجدني إن شاء الله صابرًا ولا أعصي لك أمرًا قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرًا}.{موسى} المذكور في هذه الآية هو موسى بن عمران عليه السلام، ولم يذكر الله في كتابه موسى غيره، ومن ذهب إلى أنه غيره وهو موسى بن ميشا بن يوسف، أو موسى بن افراثيم بن يوسف فقول لا يصح، بل الثابت في الحديث الصحيح وفي التواريخ أنه موسى بن عمر نبيّ إسرائيل، والمرسل هو وأخوه هارون إلى فرعون، وفتاه هو يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف بن يعقوب عليهم الصلاة والسلام، والفتى الشاب ولما كان الخدم أكثر ما يكونون فتيانًا قيل للخادم فتى على جهة حسن الأدب، وندبت الشريعة إلى ذلك.ففي الحديث: «لا يقل أحدكم عبدي ولا أمتي وليقل فتاي وفتاتي» {لفتاه} لأنه كان يخدمه ويتبعه.وقيل: كان يأخذ منه العلم.ويقال: إن يوشع كان ابن اخت موسى عليه السلام وسبب هذه القصة أن موسى عليه السلام جلس يومًا في مجلس لبني إسرائيل وخطب فأبلغ، فقيل له هل تعلم أحدًا أعلم منك؟ قال: لا، فأوحى الله إليه أن يسير بطول سيف البحر حتى يبلغ {مجمع البحرين} أسير أي لا أزال.قال ابن عطية: وإنما قال هذه المقالة وهو سائر.ومن هذا قول الفرزدق: انتهى.وهذا الذي ذكره فيه حذف خبر {لا أبرح} وهي من أخوات كان، ونص أصحابنا على أن حذف خبر كان وأخواتها لا يجوز وإن دل على حذفه إلاّ ما جاء في الشعر من قوله: أي حين ليس في الدنيا.وقال الزمخشري: فإن قلت: {لا أبرح} إن كان بمعنى لا أزول من برح المكان فقد دل على الإقامة على السفر، وإن كان بمعنى لا أزال فلابد من الخبر قلت: هو بمعنى لا أزال وقد حذف الخبر لأن الحال والكلام معًا يدلان عليه، أما الحال فلأنها كانت حال سفر، وأما الكلام فلأن قوله: {حتى أبلغ مجمع البحرين} غاية مضروبة تستدعي ما هي غاية له، فلابد أن يكون المعنى لا يبرح مسيري {حتى أبلغ} على أن {حتى أبلغ} هو الخبر، فلما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه وهو ضمير المتكلم، فانقلب الفعل عن ضمير الغائب إلى لفظ المتكلم وهو وجه لطيف انتهى.وهما وجهان خلطهما الزمخشري: أما الأول: فجعل الفعل مسندًا إلى المتكلم لفظًا وتقديرًا وجعل الخبر محذوفًا كما قدره ابن عطية و{حتى أبلغ} فضلة متعلقة بالخبر المحذوف وغاية له.والوجه الثاني جعل {لا أبرح} مسندًا من حيث اللفظ إلى المتكلم، ومن حيث المعنى إلى ذلك المقدر المحذوف وجعله {لا أبرح} هو {حتى أبلغ} فهو عمدة إذ أصله خبر للمبتدأ لأنه خبر {أبرح}.قال الزمخشري أيضًا: ويجوز أن يكون المعنى {لا أبرح} ما أنا عليه بمعنى ألزم المسير والطلب ولا أتركه ولا أفارقه {حتى أبلغ} كما تقول لا أبرح المكان انتهى. يعني إن برح يكون بمعنى فارق فيتعدى إذ ذاك إلى مفعول ويحتاج هذا إلى صحة نقل، وذكر الطبري عن ابن عباس قال: لما ظهر موسى وقومه على مصر أنزل قومه بمصر، فلما استقرت الحال خطب يومًا فذكَّر بآلاء الله وأيامه عند بني إسرائيل، ثم ذكر ما هو عليه من أنه لا يعلم أحدًا أعلم منه.
|